رحيل ... حين تعتريك نوبات الكلام .. ارحل نحو عالمك وأفرغ كل عشقك المكبوت في أودية الحب والجمال

21‏/12‏/2010

يمامة



إنها السابعة صباحا ، يوم عمل جديد كسابقاته ، وقف كعادته كل يوم أمام شباك مكتبه ، يتأمل الأبنية المجاورة ، فيرى اختناق الجدران المتلاصقة ، وكيف تنوء السطوح تحت أثقال الهوائيات والصحون اللاقطة وخزانات المياه ومئات "النباريش" تتدلى كشرايين القلب لتمد الساكنين بالحياة . " كشّاش حمام " فوق إحدى البنايات ، وقد اتخذ من سطحها مزرعة لطيوره ، أوكار تشبه السجون العربية ، ذات أبواب متعددة متجاورة ، مسقوفة بسطوح حديدية مائلة نصبت على جدرانها الخلفية شباك نصف دائرية، تتدلى منها حبال مخفية ، إذا ما شدت بقوة أطبقت على الطير بسرعة فائقة ، يندر أن يفلت منها شيء حتى العصفور الصغير. وإلى جانب هذه الأوكار ، وكر صغير جدا مقطع أيضا إلى عدة أقسام ، يشبه الزنازين الانفرادية التي تمتعنا شاشات التلفاز العربية كل يوم بأحدث تصاميمها .
يصفّر "الكشاش" مستخدما إصبعيه الإبهام والسبابة ، ثم يحمل عصا طويلة، لف في رأسها خرقة حمراء ويلوح بها بشكل دائري، فيستجيب سرب الحمام الطائر فوقه لإشارته، كاد "وحيد" يحسد الحمامات في طيرانها على تلك الحرية التي طالما تمنّاها، لكن حسده تلاشى عندما سمع الكشاش يصرخ لافظا اسم إحدى الحمامات فتستجيب له وتنفرد عن السرب ، ثم يناديها فتعود إلى السرب مرة أخرى ، ثم وبصفرة قوية من فمه ، يغط السرب في حركة دائرية تشبه طقوس الموظفين اليومية أمام مدير الشركة التي يعمل بها، رأى الكشاش يمسك إحداها ، يعتقلها ، ثم يسجنها في أحد الأوكار الصغيرة ، لكن باحترام واحتراس ، إذ قدم لها رشة قمح وبعض الماء ثم أقفل الباب ، وبالطبع لم يفهم معنى هذه الطقوس ، لكنه فهم أمرا واحدا : لقد ضحّت هذه الحمامة بحريتها من أجل الأمان، أمان العيش والحياة الكريمة ، وأن الحرية التي يطلبها صعبة المنال ، وقد تؤدي به إلى ما هو أصعب من عبودية الوظيفة التي يعيشها منذ أعوام طويلة .
عندما يدخل كل يوم إلى الشركة ، يشعر أن روحا ما تتلبسه ، لم يستطع لها تفسيرا ، سوى مشاعر قاتمة ، غائمة ، تدور في عقله كطاحونة الضيعة ، التي يعرف تماما صوتها ودويها ، كان يحاول في صغره أن يضع لصوت الطاحونة إيقاعا محددا ، وأن يلتقط نغما يقوم بتقليده ، لكن ذلك لم يجده نفعا . هكذا كان عقله كل صباح .
دخل الشركة موظفا صغيرا في بداية شبابه وها هو يقترب من الكهولة ، فما الذي تغير ، نفس الوجوه ، وذات المكان ، كل شيء يتغير من حوله إلا هو ، لقد رأى الكثيرين من أصدقائه يتطورون ويتدرجون في السلم الوظيفي ، وبقي هو في مكانه ، في مكتبه ، لم يدر ما هي معايير الترقيات ، كان يظن أن الاجتهاد في العمل هو معيار للتقدم فاجتهد بكل قوته لكنه لم يفلح في لفت أنظار أصحاب الشركة إليه ، وتعلم منذ طفولته أن المطيع ينال المكافأة الكبيرة ، فكان مطيعا ، يؤدي الرقصة اليومية لطقس الطاعة أمام المدير ، ونصحه زملاؤه أن تقديم الهدايا قد تساعده على كسب رضا المسؤولين في الشركة، ففعل دون جدوى ، ضاعت عنده المعايير وتلاشت ، ودخل فيما يشبه الغربة ، شعر أنه منفصل عن واقعه ، غير معني به، يسير بآلة تحكم تشبه صفير الكشاش ، تصارعه الرغبة في البقاء وأنه لا يريد سوى رشة القمح ، ورغبة أخرى بالحرية تعتصر قلبه فيلفحه الخوف والذهول لعظم الثمن الذي يتخيل أن عليه دفعه .
لقد أصبح المكتب كأنه منزله ، في الزاوية خزانة حديدية وضع فيها منشفة وفرشاة لشعره وبضعة كتب، ومخدة يستخدمها للاستلقاء حين يشعر بألم ظهره من الجلوس على ذات الكرسي الذي سر به كثيرا عندما جلس عليها في اليوم الوظيفي الأول ، وفي زاوية أخرى بضع مقاعد قديمة بنية اللون ومكتبة بسيطة للملفات الإدارية .  
قال في نفسه : ما هذه الروح التي تلبسني كل صباح ؟ من يفسر لي هذا الشعور الذي يكتنفني ويثير انقباضات أحشائي ؟
مزيج من الغضب والحزن والخوف، حاول التقاط إيقاعاتها وأنغامها كما كان يفعل مع طاحونة الضيعة ، لكنه كان يفشل أيضا ، فيحدث نفسه : إنه أدمن الفشل ولا شيء غير ذلك.
هل أستطيع الخروج من هذه السجن ؟ هل سيأتي اليوم الذي لا ادخل فيه من هذه البوابة اللعينة ؟ كانت بوابة الشركة تعني له الكثير من القهر على الرغم من تغيير لونها وتزيينها مرات عديدة ، تغيرت البوابة عدة مرات ولم يتغير .
تبدو له البوابة جزءا من قدره ، لا بد من دخولها كل يوم والخروج منها في الوقت المحدد ، وإلا فإن أولاده سيدخلون من بوابة أخرى قد لا تكون ألوانها زاهية كلون بوابة الشركة .
وعلى سطح حديدي مجاور لشباك مكتبه ، غطت يمامة ، تبدو رشيقة ، مزهوة بحريتها الواضحة ، وريشها اللامع ، مد يده متوددا ، تمتم بضع كلمات ودعاها للقدوم إليه ، كانت تنظر إليه جانبيا بإحدى عينيها ، تتقدم وتتراجع في حذر شديد ، شعر بأنها تتعاطف معه في سجنه الذي كان برأيه أصعب من سجن أبي فراس ، حسدها حقا ، لكن صفير كشاش الحمام أجفلها ، فطارت مسرعة إلى حيث لا تسمع صوته .
وفي تلك اللحظة رن جرس الهاتف متزامنا مع صفير الكشاش فعاد من تأمله وهو معجب باليمامة وحريتها،  وأنها لم تنتم إلى جماعات الحمام التي كانت في تلك اللحظة ، تغط في رقصة دائرية كطقوس الموظفين الصباحية في مكتب المدير.  
abuiyad

هناك تعليقان (2):

  1. وصف رائع و دقيق .. التجربة جدا مؤثرة

    ردحذف
  2. شكرا لك عزيزتي على مرورك الطيب ...

    ردحذف